الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقوله: وكل شيء. ثم لو سلمت ** لم يك للخالق تقدير إن أراد به أنه لو سلم أن العبد فاعل أفعاله حقيقة، ونحو ذلك من أقوال السلف لزم نفي التقدير، فهذا التلازم ممنوع. وإن أراد أنه لو سلم أن يشاء ما لم يشأ الله، لزم انتفاء مشيئة الله عن المحرمات، والمباحات باتفاق الناس، بل يلزم انتفاء مشيئته في الحقيقة لأفعال العباد كلها، كما يلزم انتفاء قدرته على أفعال العباد كلها، وانتفاء خلقه لشيء منها. وفي ذلك نفي هذا التقدير الذي هو بمعنى المشيئة والقدرة والخلق. وأما التقدير الذي هو بمعنى تقديرها في نفسه وعلمه بها، وخبره عنها وكتابته لهاـ فهذا إنما يلزم لزومًا بينا على قول من ينكر العلم المتقدم، وجمهور القدرية لا تنكره، لكن إذا جوزوا حدوث حوادث كثيرة بدون مشيئته وقدرته وخلقه، أثبتوا في العالم حوادث كثيرة يحدثها غيره، وهو غير قادر على إحداثها، وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بقوله:
وقوله: أو كان فاللازم من كونه ** حدوثه والقول مهجور كأنه يريد ـ والله أعلم ـ لو كان الله مقدرًا لها عالما بها، فيلزم من كونه عالما بها مقدرًا لها، بعد أن تكون حدوث العلم بها بعد أن كانت، ويلزم ألا يكون الرب عالما بأفعال العباد، ولا مقدرًا لها حتى فعلت، وهذا القول مهجور باطل، مما اتفق على بطلانه سلف الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وسائر علماء المسلمين، بل كفروا من قاله، والكتاب والسنة مع الأدلة العقلية تبين فساده. فإن الله قد أخبر عما يكون من أفعال العباد قبل أن تكون، بل أعلم بذلك من شاء من ملائكته وغير ملائكته، قال تعالى: ودلت هذه الآية على أنه يعلم أن آدم يخرج من الجنة فإنه لولا خروجه من الجنة لم يصر خليفة في الأرض فإنه أمره أن يسكن الجنة، ولا يأكل من الشجرة، بقوله: ولهذا قال من قال من السلف: إنه قدر خروجه من الجنة قبل أن يأمره بدخولها بقوله: وقد يستدل به على أنه خالق أفعال العباد؛إذ لو كانت أفعالهم غير مقدورة له لم يمكنه أن يملأ جهنم، بل كان ذلك إليهم إن شاؤوا عصوه فملأها، وإن شاؤوا أطاعوه فلم يملأها. لكن قد يقال: إنه علم أنهم يعصونه، فأقسم على جزائهم على ذلك، وقد يجاب عن ذلك بأن علمه بالمستقبل قبل أن يكون مستلزم لخلقه له، فإنه سبحانه لا يستفيد العلم من غيره، كالملائكة والبشر، ولكن علمه من لوازم نفسه، فلو كانت أفعاله خارجة عن مقدوره ومراده لم يجب أن يعلمها كما يعلم مخلوقاته. وبسط هذا له موضع آخر. /وقال تعالى عن المنافقين: بل العلم بالمستقبل من أفعال العباد يحصل لآحاد المخلوقين من الملائكة، والأنبياء وغيرهم، فكيف لا يكون حاصلا لرب العالمين؟! وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما سيكون من الأفعال المستقبلة من أمته، وغير أمته مما يطول ذكره، كإخباره بأن ابنه الحسن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وإخباره بأنه تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق، وإخباره بأن قومًا يرتدون بعده على أعقابهم، وإخباره بأن خلافة النبوة تكون ثلاثين سنة ثم تصير ملكًا، وإخباره بأن الجبل ليس عليه إلا نبي وصديق وشهيد، وكان أكثرهم شهداء وإخباره يوم بدر بقتل صناديد قريش قبل أن يقتلوا، وإخباره بخروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وقتل عيسى عليه السلام له على باب لد. وإخباره بخروج يأجوج ومأجوج، وإخباره بخروج الخوارج الذين قال فيهم: (يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه/مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية آيتهم أن فيهم رجلاً مخدج اليد على يده مثل البضعة من اللحم تدردر)، وكان الأمر كما أخبر به لما قاتلهم علي بن أبي طالب بالنهروان، ووجد هذا الشخص كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم. وإخباره بقتال الترك وصفتهم حيث قال: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الخدود دلف الأنف ينتعلون الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة). وقد قاتل المسلمون هؤلاء الترك، وغيرهم لما ظهروا، ومثل هذا من أخبار نبيه صلى الله عليه وسلم أكثرمن أن تذكر وهو إنما يعلم ما علمه الله وإذا كان هو يعلم كثيرًا مما يكون من أعمال العباد، فكيف الذي خلقه وعلمه ما لم يكن يعلم. وهو ـ سبحانه ـ لا يحيط أحد من علمه إلا بما شاء ولا يعلم أحد ـ لا نبي ولا غيره ـ إلا ما علمه الله، وقال الخضر لموسى: إنني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، ولما نقر العصفور في البحر قال له: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر، وهو سبحانه ـ القائل في حق موسى: والمقصود أن نفى علم الله بالحوادث أفعال العباد وغيرها قبل أن تكون باطل، وغلاة القدرية ينفون ذلك. /وأما قوله تعالى: منهم من يقول: المتجدد هو نسبة وإضافة بين العلم والمعلوم فقط، وتلك نسبة عدمية. ومنهم من يقول: بل المتجدد علم بكون الشيء ووجوده، وهذا العلم غير العلم بأنه سيكون، وهذا كما في قوله: وعامة السلف وأئمة السنة والحديث، على أن المتجدد أمر ثبوتي كما دل عليه النص، وهذا مما هجر أحمد بن حنبل الحارث المحاسبي على نفيه، فإنه كان يقول / بقول ابن كلاب فر من تجدد أمر ثبوتي، وقال بلوازم ذلك. فخالف من نصوص الكتاب والسنة، وآثار السلف ما أوجب ظهور بدعة اقتضت أن يهجره الإمام أحمد، ويحذر منه، وقد قيل: إن الحارث رجع عن ذلك. والمتأخرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة على قولين: منهم من سلك طريقة ابن كلاب، وأتباعه، ومنهم من سلك طريقة أئمة السنة والحديث، وهذا مبسوط في موضعه. والمقصود هنا أن تقدم علم الله وكتابته لأعمال العباد حق، والقول بحدوث ذلك قول مهجور، كما قاله الناظم إن كان قد أراد ذلك، وليس في ذلك ما ينافي أمر الله ونهيه، فإن كونه خالقًا لأفعال العباد لا ينافى الأمر والنهي. فكيف العلم المتقدم، وليس في ذلك ما يقتضى كون العبد مجبورًا لا قدرة له. ولا فعل كما تقوله الجهمية المجبرة.
وأما قوله: ولا يقال علم الله ما ** يختار فالمختار مسطور /فهو يتضمن إيراد سؤال من القدرية وجوابه منهم: فإنهم قد يقولون: نحن نقول: إنه يعلم، وإذا قلنا ذلك، لم نكن قد نفينا القدرة، بل أثبتنا القدر بمعنى العلم مع نفي كون الرب تعالى شائيًا جميع الحوادث، خالقًا لأفعال العباد. قال الناظم فإن الذي يختاره العبد مسطور قبل ذلك، فلا يمكن بغيره فيلزم الجبر. وقد يعترض على هذا الجواب، بأن يقال: اللازم هنا بمنزلة الملزوم، فإن علمه بأنه يختاره موافق لما كتبه من أنه يختاره، وتغيير العلم أعظم من تغيير المسطور. وقد يقال: إنه أراد جعل السطر من تمام القول، أي لا يقال علم ما يختاره، وسطر ذلك. أي: فتقدم العلم والكتاب كاف في الإيمان بالقدر، فإن مجرد ذلك لا يكفي في الإيمان بالقدر، وهذا من حجة القائلين بالجبر. قالوا: خلاف المعلوم ممتنع، فالأمر به أمر بممتنع؛ لأنه لو وقع المأمور للزم انقلاب العلم جهلاً. وجوابهم: أن الممتنع لفظ مجمل، فإن أرادوا أن خلاف المعلوم لا يقع، ولا يكون، فهذا صحيح، ولكن التكليف بما لا يكون لا يكون تكليفًا بما يعجز عنه الفاعل، فإن مالا يفعله الفاعل قد لا يفعله ؛ لعجزه عنه وقد لا يفعله ؛ لعدم إرادته، فإنما كلف بما يطيقه مع علم الرب / أنه لا يكون، كما يعلم أن ما لا يشاؤه هو لا يكون، مع أنه لو شاء لفعله. وقول المحتج: لو وقع لانقلب العلم جهلاً. قيل: هذا صحيح، وهو يدل على أنه لا يقع، لكن لا يدل على أن المكلف عاجز عنه، لو أراده لم يقدر على فعله، فإنه لا يقع لعدم إرادته له، لا لعدم قدرته عليه، كالذي لا يقع من مقدورات الرب التي لو شاء لفعلها، هو يعلم أنه لا يفعلها. ولا يجوز أن يقال: إنه غير قادر عليها، كما قاله بعض غلاة أهل البدع، بل قد قال سبحانه: وقد ذكر في غير موضع من القرآن، ما لا يكون أنه لو شاء لفعله، كقوله: وإذا قيل: هو ممتنع، فهو من باب الممتنع؛ لعدم مشيئة الرب له، لا لكونه ممتنعًا في نفسه، ولا لكونه معجوزًا عنه. ولفظ الممتنع، فيه إجمال كما تقدم، وما سمى ممتنعًا بمعنى/ أنه لا يكون مع أنه لو شاء العبد لفعله؛ لقدرته عليه، فهذا يجوز تكليفه بلا نزاع، وإن سماه بعضهم بما لا يطاق، فهذا نزاع لفظي، ونزاع في أن القدرة، هل يجوز أن تتقدم الفعل أم لا؟
وأما قوله: والجبر إن صح يكن مكرهًا ** وعندك المكره معذور فيقال: قد تقدم بيان معنى الجبر وأن الجبر إذا أريد به الإكراه، كما يجبر الإنسان غيره، ويكرهه على خلاف مراده، فالله تعالى أجل وأعلا وأقدر من أن يحتاج إلى مثل هذا الجبر والإكراه، فإن هذا إنما يكون من عاجز يعجز عن جعل غيره مريدًا لفعله مختارًا له محبًا له راضيا به، والله سبحانه على كل شيء قدير، فإذا شاء أن يجعل العبد محبًا لما يفعله، مختارًا له جعله كذلك، وإن شاء أن يجعله مريدًا له بلا محبة بل مع كراهة فيفعله كارهًا له جعله كذلك. وليس هذا كإكراه المخلوق للمخلوق، فإن المخلوق لا يقدر أن يجعل في قلب غيره لا إرادة وحبا، ولا كراهة وبغضًا، بل غايته أن يفعل ما يكون / سببًا لرغبته أو رهبته، فإذا أكرهه فعل به من العقاب أو الوعيد ما يكون سببًا لرهبته وخوفه، فيفعل ما لا يختار فعله، ولا يفعله راضيًا بفعله، ويكون مراده دفع الشر عنه، فهو مريد للفعل، لكن المقصود دفع الشر عنه، لا نفس الفعل، ولهذا قد يسمى مختارًا، ويسمى غير مختار باعتبار، ويسمى مريدًا، ويسمى غير مريد باعتبار. ولكن اللغة العربية لا يسمى فيها مختارًا بل مكرهًا، وهي لغة الفقهاء. كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له). فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من يفعل بمشيئته لا يكون مكرهًا، والمكره يفعل بمشيئة غيره، وهو المكره له، فإنه وإن كان قاصدًا لما يفعله ليس هو بمنزلة المفعول به الذي لا قدرة له، ولا إرادة له في الفعل بحال، فإن مقصوده بالقصد الأول دفع الشيء لا نفس الفعل، فالمراتب ثلاثة: أحدها: من يفعل به الفعل من غير قدرة له على الامتناع، كالذي يحمل بغير اختياره ويدخل إلى مكان أو يضرب به غيره، أو تضجع المرأة وتفعل بها الفاحشة بغير اختيارها، من غير قدرة على الامتناع، فهذا ليس له فعل اختياري، ولا قدرة ولا إرادة. ومثل هذا الفعل ليس فيه أمر ولا نهي، ولا عقاب باتفاق العقلاء، وإنما يعاقب إذا أمكنه الامتناع فتركه؛ لأنه إذا لم / يمتنع كان مطاوعًا لا مكرها، ولهذا فرق بين المرأة المطاوعة على الزنا والمكرهة عليه. والثانية: أن يكره بضرب أو حبس، أو غير ذلك حتى يفعل، فهذا الفعل يتعلق به التكليف، فإنه يمكنه ألا يفعل، وإن قتل؛ ولهذا قال الفقهاء: إذا أكره علي قتل المعصوم، لم يحل له قتله، وإن قتل فقد اختلفوا في القود. فقال أكثرهم كمالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه: يجب القود على المكره والمكرَه لأنهما جميعا يشتركان فى القتل، وقال أبو حنيفة: يجب على المكره الظالم؛ لأن المكره قد صار كالآلة، وقال زفر: بل على المكره المباشر؛ لأنه مباشر وذاك متسبب. وقال: لو كان كالآلة لما كان آثما، وقد اتفقوا على أنه آثم، وقال أبو يوسف: لا تجب على واحد منهما. وأما إن أكره على الشرب للخمر، ونحوه من الأفعال، فأكثرهم يجوز ذلك له، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه؛ لقوله تعالى: أحدهما: لا يكون مكرها عليه، كقول أبي حنيفة، وهو منصوص أحمد. / والثاني: قد يكون مكرها عليه، كقول الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد. وإذا أكره على كلمة الكفر جاز له التكلم بها، مع طمأنينة قلبه بالإيمان. وإذا أكره على العقود كالبيع، والنكاح، والطلاق، والظهار، والإيلاء، والعتق، ونحو ذلك، فمذهب الجمهور، كمالك، والشافعي، وأحمد أن كل قول أكره عليه بغيرحق فهو باطل، فلا يقع به طلاق ولا عتاق، ولا يلزمه نذر، ولا يمين، ولا غير ذلك، وأما أبو حنيفة فيفرق بين ما يقبل الفسخ عنده، ويثبت فيه الخيار كالبيع و نحوه، فلا يلزم مع الإكراه، وما ليس كذلك كالنكاح والطلاق والعتاق فيلزم مع الإكراه. وأما المكره بحق كالحربي على الإسلام، فهذا يلزمه ما أكره عليه باتفاق العلماء. فقول الناظم: والجبر إن صح يكن مكرها ** وعندك المكره معذور قول مؤلف من مقدمتين باطلتين: / الأولى: إن صح الجبر كان مكرها، وقد عرف أن لفظ الجبر، إذا أريد به الجبر المعروف من إجبار الإنسان غيره على ما لا يريده، فهذا الجبر لم يصح، وإن أريد به أن الله يخلق إرادته، فهذا الجبر إذا صح لم يكن مكرها. والمقدمة الثانية قوله: والمكره عندك معذور، فليس الأمر كذلك، بل المكره نوعان: نوع أكرهه المكره بحق، فهذا ليس بمعذور، والله تعالى لا يكره أحدًا إلا بحق، سواء قدر الإكراه بخلقه وقدره، أو شرعه وأمره، وإنما المكره المعذور هو المظلوم المكره بغير حق، والله تعالى لا يظلم أحدًا مثقال ذرة، بل هو الحكم العدل القائم بالقسط، كما قال تعالى: وقد اتفق المسلمون وغيرهم، على أن الله منزه عن الظلم، لكن تنازع الناس في معنى الظلم الذي يجب تنزيه الرب عنه، فجعلت القدرية من المعتزلة وغيرهم الظلم الذي ينزه عنه الخالق من جنس الظلم الذي ينهي عنه المخلوق، وشبهوا الله تعالى بخلقه، فأوجبوا عليه من جنس ما يجب على / المخلوق، وتكلموا في التعديل والتجويز بكلام متناقض، كما هو معروف عنهم و ألزموا الناس إلزامات كثيرة. منها: أن قالوا: إن العبد لو رأى رفقة يظلم بعضهم بعضًا، وهو يقدر على منعهم من الظلم ولم يمنعم لكان ظالمًا ومثل هذا ليس ظلماً من الله فقالوا: هو قد نهاهم عن ذلك، وعرضهم للثواب إذا أطاعوه، وللعقاب إذا عصوه، وهم قد ظلموا باختيارهم، ولم يمكن منعهم من ذلك إلا بإلجائهم إلى الترك، والإلجاء يزيل التكليف الذي عرضهم به للثواب. فقال لهم الجمهور: الواحد منا لو فعل ذلك مع علمه بأن عباده لا يطيعون أمره، ولا يمتنعون عن الظلم، بل يزدادون عصيانًا وظلما، لم يكن ذلك حكمة ولا عدلا، وإنما يحمد ذلك من الواحد منا لعدم علمه بالعاقبة، أو لعجزه عن المنع، والله عليم بالعواقب، وهو على كل شيء قدير، وإلا فإذا كان الواحد منا يعلم أنه إذا أمرهم، ليعرضهم للثواب عصوة وظلم بعضهم بعضًا، وجب عليه أن يمنعهم من الظلم بالإلجاء. وتمام الكلام في ذلك مبسوط في موضع آخر. فإن هذا الجواب لا يحتمل إلا التنبيه. وقالت طائفة من مثبتة القدرـ من المتقدمين، والمتأخرين، من الجهمية / وأهل الكلام، والفقهاء وأهل الحديث ـ: الظلم منه ممتنع لذاته، فكل ممكن يدخل تحت القدرة ليس فعله ظلمًا، وقالوا: الظلم التصرف في ملك الغير، أو الخروج عن طاعة من تجب طاعته، وكل من هذين ممتنع في حق الله. وقال كثير من أهل السنة والحديث والنظار: بل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ومن ذلك أن يبخس المحسن شيئًا من حسناته، أو يحمل عليه من سيئات غيره، وهذا من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه، كقوله تعالى: وفي حديث البطاقة، الذي رواه الترمذي وغيره وحسنه، ورواه الحاكم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجاء يوم القيامة برجل من أمتي على رؤوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، ثم يقول الله تعالى له: أتنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يارب. فيقول الله عز وجل: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يارب. فيقول الله تعالى: بلى، إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فتخرج / له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فيقول: يارب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة). وقال تعالى: وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل، وأنزل الكتب). /ومثل هذه النصوص كثيرة، وهي تبين أن الظلم الذي نزه الله نفسه عنه ليس هو ما تقوله القدرية، ولا ما تقوله الجبرية، ومن وافقهم، وقد بسط الكلام على تحقيق هذا المقام في مواضع أخر، وبين فيها حكمة الله وعدلة، فإن هذا المقام هو من أعظم المقامات التي اضطرب فيها كثير من الأولين والآخرين. والبسط الكثير الذي ينتهي به إلى تفصيل أقوال الناس، وحقيقة الأمر في ذلك ببيان الدلائل، والجواب عن المعارضات لا يناسب جواب هذا النظم، وهو مذكور في موضع آخر. وفي الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: فيما يروي عن ربه ـ تبارك وتعالى ـ أنه قال: (ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، ياعبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، ياعبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم. ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل / البحر. ياعبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه). قال سعيد: كان أبو أدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه. فذكر في أول هذا الحديث الإلهي، الذي قال فيه الإمام أحمد: هو أشرف حديث لأهل الشام، أنه حرم الظلم على نفسه. والتحريم ضد الإيجاب، وبين في القرآن أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا علي قول الطائفة الثانية المراد به مجرد خبره بمجرد الوعد والوعيد، وعلى قول الآخرين: بل هو ـ سبحانه ـ كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم كما أخبر عن نفسه، فقال تعالى: وختم الحديث، بقوله: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه)، كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللّهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفرلي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة). /وفي هذا الحديث قوله: (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي)، ومن نعمه على عبده المؤمن، ما ييسره له من الإيمان والحسنات فإنها من فضله وإحسانه ورحمته وحكمته، وسيئات العبد من عدله وحكمته؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وهو لا يسأل عما يفعل ؛ لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته، كما يقوله جهم وأتباعه، وقد بسط الكلام على هذا وبين حقيقة قوله: (والخير بيديك، والشر ليس إليك) وإن كان خالق كل شيء، وبين أن الشر لم يضف إلى الله في الكتاب والسنة، إلا على أحد وجوه ثلاثة: إما بطريق العموم، كقوله: وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن: وقد جمع في الفاتحة الأصناف الثلاثة، فقال: وقد بسط الكلام على حقائق هذه الأمور، وبين أن الله لم يخلق شيئًا إلا لحكمة، قال تعالى: وظن الظان أن الحكمة المطلوبة التامة قد تحصل مع عدمه، إنما يقوله لعدم علمه بحقائق الأمور، وارتباط بعضها ببعض، فإن الخالق إذا خلق الشيء، فلابد من خلق لوازمه، فإن وجود الملزوم بدون وجود اللازم ممتنع، ولابد من ترك خلق أضداده التي تنافيه، فإن اجتماع الضدين المتنافيين في وقت واحد ممتنع. وهو ـ سبحانه ـ على كل شيء قدير، لا يستثنى من هذا العموم شيء، لكن مسمي الشيء، ما تصور وجوده، فأما الممتنع لذاته فليس شيئًا باتفاق العقلاء. / والقدرة على خلق المتضادات قدرة على خلقها على البدل، فهو ـ سبحانه ـ إذا شاء أن يجعل العبد متحركا جعله، وإن شاء أن يجعله ساكنًا جعله، وكذلك في الإيمان والكفر وغيرهما، لكن لا يتصور أن يكون العبد في الوقت الواحد متصفًا بالمتضادات، فيكون مؤمنا صديقًا من أولياء الله المتقين، كافرًا منافقًا من أعداء الله، وإن كان يمكن أن يجتمع فيه شعبة من الإيمان وشعبة من النفاق. والذي يجب على العبد أن يعلم أن علم الله، وقدرته، وحكمته، ورحمته في غاية الكمال الذي لا يتصور زيادة عليها، بل كلما أمكن من الكمال الذي لا نقص فيه، فهو واجب للرب تعالى، وقد يعلم بعض العباد بعض حكمته، وقد يخفى عليهم منها ما يخفى. والناس يتفاضلون في العلم بحكمته، ورحمته، وعدله، وكلما ازداد العبد علمًا بحقائق الأمور ازداد علمًا بحكمة الله، وعدله، ورحمته، وقدرته، وعلم أن الله منعم عليه بالحسنات عملها وثوابها، وإن ما يصيبه من عقوبات ذنوبة فبعدل الله ـ تعالى ـ وإن نفس صدور الذنوب منه ـ وإن كان من جملة مقدورات الرب ـ فهو لنقص نفسه وعجزها وجهلها الذي هو من لوازمها، وإن ما في نفسه من الحسنات فهو من فعل الله، وإحسانه وجوده، وإن الرب، مع أنه قد خلق النفس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها، فإلهام الفجور والتقوى وقع / بحكمة بالغة، لو اجتمع الأولون والآخرون من عقلاء الآدميين على أن يروا حكمة أبلغ منها لم يروا حكمة أبلغ منها. لكن تفصيل حكمة الرب، مما يعجز كثير من الناس عن معرفتها، ومنها ما يعجز عن معرفته جميع الخلق حتى الملائكة، ولهذا قالت الملائكة لما قال الله تعالى لهم: والله ـ سبحانه ـ قد أمرهم أن يطلبوا منه جميع ما يحتاجون إليه من هدى، ورشاد، وصلاح في المعاش والمعاد، ومغفرة ورحمة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفة، والغنى) ويقول: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها). ويقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر) وكل هذا في الأحاديث التي في الصحيح. وفي صحيح مسلم أنه كان يقول: إذا قام من الليل: (اللهم رب جبريل، وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت / تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). وقد أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا: ومن تحقق بهذا الدعاء جعله الله من أهل الهدى والرشاد، فإنه سميع الدعاء لا يخلف الميعاد، والله أعلم.
/ فأجاب: المقتول كغيره من الموتى، لا يموت أحد قبل أجله، ولا يتأخر أحد عن أجله. بل سائر الحيوان والأشجار لها آجال لا تتقدم ولا تتأخر. فإن أجل الشيء هو نهاية عمره وعمره مدة بقائه، فالعمر مدة البقاء، والأجل نهاية العمر بالانقضاء. وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض ـ وفي لفظ ـ ثم خلق السماوات والأرض)، وقد قال تعالى: والله يعلم ما كان قبل أن يكون، وقد كتب ذلك، فهو يعلم أن هذا يموت / بالبطن، أو ذات الجنب، أو الهدم أو الغرق، أو غير ذلك من الأسباب، وهذا يموت مقتولاً، إما بالسم وإما بالسيف، وإما بالحجر، وإما بغير ذلك، من أسباب القتل. وعلم الله بذلك وكتابته له بل مشيئته لكل شيء، وخلقه لكل شيء، لا يمنع المدح والذم، والثواب والعقاب، بل القاتل إن قتل قتيلاً أمر الله به ورسوله، كالمجاهد في سبيل الله أثابه الله على ذلك، وإن قتل قتيلاً حرمه الله ورسوله، كقتل القطاع، والمعتدين، عاقبه الله على ذلك، وإن قتل قتيلاً مباحًا ـ كقتيل المقتص ـ لم يثب ولم يعاقب إلا أن يكون له نيه حسنة، أوسيئة في أحدهما. والأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد. وبهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)، فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلاً وقال: (إن وصل رحمه زدته كذا وكذا). والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء ذلك لا يتقدم ولا يتأخر. ولو لم يقتل المقتول، فقد قال بعض القدرية: إنه كان يعيش، وقال بعض نفاة الأسباب: إنه يموت، وكلاهما خطأ، فإن الله علم أنه يموت بالقتل، فإذا قدر خلاف معلومه كان تقديرًا لما لا يكون لو كان كيف كان يكون، وهذا قد يعلمه بعض الناس، وقد لا يعلمه، فلو فرضنا أن الله علم أنه لا يقتل أمكن أن / يكون قدر موته في هذا الوقت، وأمكن أن يكون قدر حياته إلى وقت آخر فالجزم بأحد هذين على التقدير الذي لا يكون جهل. وهذا كمن قال: لو لم يأكل هذا ما قدر له من الرزق، كان يموت، أو يرزق شيئا آخر، وبمنزلة من قال: لو لم يحبل هذا الرجل لهذه المرأة هل تكون عقيمًا، أو يحبلها رجل آخر، ولو لم تزدرع هذه الأرض هل كان يزدرعها غيره، أم كانت تكون مواتًا لا يزرع فيها، وهذا الذي تعلم القرآن من هذا، لو لم يعلمه. هل كان يتعلم من غيره؟ أم لم يكن يتعلم القرآن البتة، ومثل هذا كثير.
/ فأجاب: جميع ما سوى الله من الأعيان وصفاتها وأحوالها مخلوقة لله، مملوكة لله، هو ربها وخالقها ومليكها ومدبرها، لا رب لها غيره، ولا إله سواه، له الخلق والأمر، لا شريك له في شيء من ذلك، ولا معين، بل هو كما قال سبحانه: أخبر ـ سبحانه ـ أن ما يدعي من دونه، ليس له مثقال ذرة في السماوات ، ولا في الأرض، ولا شرك في ملك، ولا إعانة على شيء، وهذه الوجوه الثلاثة، هي التي ثبت بها حق الغير، فإنه إما أن يكون مالكًا للشيء مستقلا بملكه، أو يكون مشاركًا له فيه نظير، أو لا ذا ولا ذاك، فيكون معينًا لصاحبه، كالوزير والمشير، والمعلم والمنجد والناصر، فبين سبحانه أنه ليس لغيره ملك لمثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا لغيره شرك في ذلك لا قليل ولا كثير، فلا / يملكون شيئًا، ولا لهم شرك في شيء، ولا له سبحانه ظهير، وهو المظاهر المعاون، فليس له وزير ولا مشير ولا ظهير. وهذا كما قال سبحانه: وحينئذ، فالغلاء بارتفاع الأسعار، والرخص بانخفاضها، هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده، ولا يكون شيء منها إلا بمشيئته وقدرته، لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سببًا في بعض الحوادث، كما جعل قتل القاتل سببًا في موت المقتول، وجعل ارتفاع الأسعار، قد يكون بسبب ظلم العباد، وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس، ولهذا أضاف من أضاف من القدرية المعتزلة وغيرهم الغلاء والرخص إلى بعض الناس، وبنوا على ذلك أصولاً فاسدة. أحدها: أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى. /والثاني: إنما يكون فعل العبد سببًا له يكون العبد هو الذي أحدثه. والثالث: أن الغلاء والرخص إنما يكون بهذا السبب. وهذه الأصول باطلة، فإنه قد ثبت أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، ودلت على ذلك الدلائل الكثيرة، السمعية والعقلية، وهذا متفق عليه بين سلف الأمة وأئمتها، وهم مع ذلك يقولون: إن العباد لهم قدرة ومشيئة، وإنهم فاعلون لأفعالهم ويثبتون ما خلقه الله من الأسباب، وما خلق الله من الحكم. ومسألة القدر، مسألة عظيمة، ظل فيها طائفتان من الناس طائفة أنكرت أن يكون الله خالقا لكل شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما أنكرت ذلك المعتزلة، وطائفة أنكرت أن يكون العبد فاعلا لأفعاله، وأن تكون لهم قدرة لها تأثير في مقدورها، أو أن يكون في المخلوقات ما هو سبب لغيره، وأن يكون الله خلق شيئًا لحكمة، كما أنكر ذلك الجهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة الذي نسب كثير منهم إلى السنة، والكلام على هذه المسألة مبسوط في مواضع أخر. والأصل الثاني: وهو إنما كان فعل العبد أحد أسبابه، كالشبع / الذي يكون بسبب الأكل، وزهوق النفس الذي يكون بالقتل، فهذا قد جعله أكثر المعتزلة فعلاً للعبد، والجبرية لم يجعلوا لفعل العبد فيه تأثيرًا بل ما تيقنوا أنه سبب، قالوا: إنه عنده لا به، وأما السلف والأئمة فلا يجعلون العبد فاعلا لذلك، كفعله لما قام به من الحركات، فلا يمنعون أن يكون مشاركًا في أسبابه، وأن يكون الله جعل فعل العبد، مع غيره أسبابا في حصول مثل ذلك. وقد ذكر الله في كتابه النوعين بقوله: فتبين أن ما يحدث من الآثار عن أفعال العباد لهم بها عمل، لأن أفعالهم كانت سببًا فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من / الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء). والأصل الثالث: أن الغلاء والرخص لا تنحصر أسبابه في ظلم بعض، بل قد يكون سببه قلة ما يخلق، أو يجلب من ذلك المال المطلوب، فإذا كثرت الرغبات في الشيء، وقل المرغوب فيه، ارتفع سعره، فإذا كثر وقلت الرغبات فيه انخفض سعره، والقلة والكثرة قد لا تكون بسبب من العباد، وقد تكون بسبب لا ظلم فيه، وقد تكون بسبب فيه ظلم، والله تعالى يجعل الرغبات في القلوب. فهو سبحانه كما جاء في الأثر، قد تغلوا الأسعار والأهواء غرار، وقد ترخص الأسعار والأهواء فقار.
|